كنت قد قررت أن أقضى ليلة السبت الماضية 26 فبراير فى ميدان التحرير بعد أن علمت أن بعض أفراد الشرطة العسكرية قد نجحوا الليلة التى سبقتها فى فض اعتصام ميدان التحرير بالقوة . شعرت وقتها بالعجز و قررت أن الحل هو البقاء فى الميدان و ليحدث ما يحدث.
مضت الليلة بمخاوفها و أغنياتها الثورية و فى تمام السادسة صباحا و أثناء جلوسى مع بعض الأصدقاء فوجئت بأحدهم يدخل علينا و فى يده رجل كبير فى السن , أخبرنا أنه من السويس ثم قام بتعريفه فى جملة واحدة " ده أبو شهيد" ..صمتنا جميعا و تركناه هو ليتحدث .
" عبد الرحمن " ..اسمه " عبد الرحمن " أما عمره فلم يكن قد تجاوز الثامنة عشر عندما قررت رصاصات الخراب أن تنتزعها منه و تنتزعه هو من أحضاننا .
يوم الثلاثاء الخامس و العشرين من يناير جاء الرجل ذو السنوات الخمسين الى ميدان التحرير مثله مثل الاف من المصريين الذى اتفقوا يومها على أن يضعوا للذل نهاية و للقهر حدود , تاركا وراءه ابنه فى السويس لينضم الى زملاءه فى اطلاق شرارة الثورة الأولى امام ميدان الأربعين .
فى العاشرة صباحا انطلق شباب السويس فى فريقين ..فريق قادم من فيصل و الصباح و غيرها من المناطق و فريق اخر قادم من الغريب و بورتوفيق اما مكان اللقاء فكان من المفترض ان يكون ميدان الأربعين .
و لكن شاء القدر أن يتحول مكان اللقاء الى ثكنة عسكرية احتلتها قوات الأمن المركزى التى كانت متحفزة و مستعدة لانهاء الثورة قبل لحظة ميلادها .
وفقا ل" ابو عبد الرحمن " فان الاشتباكات كانت قد بدأت فى تمام العاشرة و النصف صباحا حيث شرعت القوات فى تفريق المتظاهرين باستخدام القنابل المسيلة للدموع و غير ذلك من اشكال العنف المتنوعة .
تراجع الشباب لوهلة خدعوا فيها القوات قبل ان ينقضوا عليهم مرة اخرى , و لكن المفاجاة التى لم يحسبوا لها حسابا كانت فرق القناصة التى كانت قد تمركزت فوق سطح " قسم شرطة الأربعين " لضرب المتظاهرين بالرصاص الحى .
كانت ساعة كاملة أو اكثر قد مرت على بدء الاشتباكات عندما سقط عبد الرحمن برصاصتين , احداهما فى عنقه و الاخرى فى صدره .
والده كان مازال فى ميدان التحرير عندما تلقى اتصالا من احدى زملاء ابنه يخبره بان " عبد الرحمن" قد اصيب و ان الافضل لابيه ان يعود الى السويس فى أسرع وقت ممكن .
انهى الاب المكالمة ليتلقى اتصالا اخر من اخيه اكتفى فيه بجملة واحدة " عبد الرحمن تعيش انت " ..
اسرع الاب كالمجنون يبحث عمن يطير به طيرا الى السويس , و عندما وصل الى هناك وجد مظاهرات حاشدة امام مبنى " المشرحة " حيث اصرت قوات الامن على التحفظ على الجثث و منعت الاهالى من استلامها و هو الامر الذى لم يكونوا ليقبلوا به حتى لو كلفهم الأمر حياتهم .
لم يكن امام قوات الامن خيار سوى الاستسلام لقرار الأهالى , فكان الحل هو أن يصطحبوهم أثناء دفن أبنائهم فى " الروض القديم " و هو الذى تم بالفعل قبل ان يتبخروا تماما , فبمجرد انهاء مراسم الدفن لم يكن هناك وجود لأى عنصر من عناصر الأمن بمنطقة المدافن .
فجأة توقف " ابو عبد الرحمن " عن الكلام ..صمته استغرق ثانية حاول فيها استعادة قوته و منع دموعه من الاعلان عن نفسها , قبل ان يواصل حكايته .
قال لى انه ما ان ودع الأهالى فلذات أكبادهم الى مثواها الاخير , حتى انطلقت الثورة فى كل شوارع السويس لتنال من كل قسم شرطة خرجت منه رصاصة فى قلب شهيد من الشهداء , لتكتب السويس من اليوم الأول اول صفحة فى كتاب شهداء الثورة .
لا أعرف " عبد الرحمن " ..لم أره يوما ..و لكنى من السويس و أعرف وجوها كثيرة مثله ..تربيت معهم , و كبرت بجوارهم ..و أستطيع أن اكمل الرواية التى انهتها رصاصات العادلى و جيوشه .
عبد الرحمن كان بالصف الثالث الثانوى بمدرسة السويس الحديثة بنين ..
ربما لم يحصل على مجموع كبير فى العام السابق و لكنه كان يعلم أن كثير من الاستذكار هذا العام قد يدفع به نحو احدى كليات القمة , و ربما وقتها يستطيع ان يطلب من أباه ان يخطب له فتاته التى تعرف عليها و أحبها من النظرة الأولى فى " درس الكيميا" ..أبوه لم يكن ليعترض خاصة و انه الابن الوحيد.
حتى اذا لم ينجح فى الالتحاق بكلية من كليات القمة , أضعف الايمان انه سيقدم أوراقه فى كلية تجارة السويس ..و بمجرد أن ينهى دراسته سيساعده أبوه أو أى من أفراد عائلة " البلبوشى " العريقة و التى ينتمى اليها فى ايجاد فرصة عمل له فى احدى شركات السخنة , او ربما النصر للبترول ..او ربما الميناء ..او ربما و ربما ..
يوما ما كان سيذهب للتقدم لخطبتها ..."فتاة درس الكيميا" ..كان ليختار " جرين هاوس " او " نادى التجديف" مقرا لحفل الزفاف ..اما شقة الزوجية فكانت فى " عمارات التوفيقية " بالقرب من موقف السوبر جيت ..اشتراها له والده منذ عام ..لم يخبره عنها بعد ..ربما سيخبره عنها لاحقا ..
" عبد الرحمن " كان متدينا و لكنه لم يكن يوما متذمتا ..مثله مثل ملايين المصريين الذين يعيشون اليوم ما بين عشق للدنيا و حنين للاخرة ..عروسته محجبة و لكنه لم ليكن ليستطيع أن يمنع نفسه من ان يرقص معها حتى الصباح و لسان حاله يقول " هو الواحد بيفرح كام مرة "..